يا وطني: في فمي ماء!
أحمد بن عبد المحسن العساف
أنْ تحبَّ إنساناً ولا تخبره بما ينفعه فتلك مصيبة، وأنْ تحب أحداً ثمَّ تصارحه بمكنونك فيغضب منك أو يسئ الظَّنَّ بك فتلكم مصيبة أخرى، فإذا سكتَّ آلمتك نفسك واتَّهمتك بسوء العشرة أو فقدان المروءة. ويظلَّ الواحد في دوامة من التَّفكير بين أنْ يقول أو لا يقول، فيترجَّح لديه رأي ثم ينثني عنه، وهكذا في مطاردة دائمة بين الإقدام أو الإحجام.
والوطن، لفظ جميل، ومعنى عذب، وشعور آسر، وكيف لا يكون كذلك وهو موضع العيش، ومحل السُّكنى، وديار الأهل والأحبة، ومنبع الرِّزق، وموئل المغترب والنَّائي وإنْ طال البعد، فله الشَّوق يزداد، وحبه جبلَّة وخلَّة محمودة تنبي عن الوفاء وكريم الشيم. هذه قيمة الوطن لمجرَّد كونه وطنا، فكيف به إنْ كان بلداً مقدَّسا، أو داراً لخلافة إسلامية، أو موئلاً لحضارة إنسانية قديمة، إنَّه حينذاك وطن لا كالأوطان، فلا يتقدَّمه إلاَّ الدِّين الحنيف.
ولأنَّنا نحب بلادنا، ونرجو لها الخير، ونسعى جاهدين في حمايتها من المبطلين؛ حزب الجفاء والتَّغريب، وفئة الغلو والتَّكفير، حتى تبقى الدِّيار آمنة قوية، متماسكة هانئة، وليحيا أهلها بخير عميم يفيض حتى يبلغ غيرهم، ويحمل بنوها على عواتقهم واجب تقديم المثال الصَّحيح لاجتماع القيم النَّبيلة مع الرُّقي المادِّي، ويصبحوا موضع القدوة الحسنة، وبذلك صرنا خير أمَّة أخرجت للنَّاس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بأقوالها وفعالها.
لأجل ذلك يشعر المواطن العربي أنَّ لديه شيئاً من الرَّأي يرغب في إعلانه والبوح به، لتنتفع بلاده من صوابه، وتغضَّ الطَّرف عن خطئه، فالغاية نبيلة، والطريقة سلمية سليمة، ويتردَّد ابن العرب أيقول فيرتاح أم يصمت فيسلم؟ وهذا الهاجس لا يرِد على المواطن الغربي لأنَّ حرية الرَّأي مكفولة حسب ثقافة تلك المجتمعات، فلا انقلاب، ولا تزوير انتخابات، ولا سجناء رأي، وغير ذلك مما امتازت به هذه الأمم الضَّالة في دينها المستقيمة في كثير من شؤونها الدُّنيوية.
فهل يستطيع الشَّعب العربي أنْ يطالب حكومات بلاده بتوقير دين الإسلام الذي يبتغيه الغالبية ويدينون به؟ أم أنَّه يخشى أنْ ينادي: لا تفسدوا علينا ديننا حتى لا نكون كالمنبَّت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى؟ أيلام الفرد حين يناشد حكومته حماية العقيدة والشَّريعة، وتقديم حكم الله والأخذ به دون سواه؟ أليس من صدق النَّصيحة للبلد والمجتمع الدَّعوة لاتباع سَنَن الدِّين القويم على المستوى الجماعي والرَّسمي؟
ولا تثريب على المواطن إنْ خاف من عواقب غموض طرق تداول السُّلطة في بلاده، أو خشي من نتائج غياب النِّظام في انتقال الحكم، أو غلب عليه الشَّك في فعالية الوسائل القديمة والمستحدثة لهذا الانتقال، وقد يتهيّب العربي من المطالبة بحكم شرعي في أشخاصه وكيفيته، بيد أنَّه يأمل في وضع آمن سلس جاهز لأي مفاجأة، حتى لا تضيع ديار العرب في الفوضى القتَّالة.
ويطمح العربي بقضاء مستقل، نزيه، منجز، لا يرضخ لأيِّ ضغط، ويتعامل مع الكَّافة سواسية إنْ في التَّرشيح للقضاء؛ أو الوقوف أمام القاضي، فالقضاء عرض المجتمع وسرُّ الحكم، ولا ملامة على الغيور حين يحامي عن عرضه وسرِّ بقائه ليظلَّ قوياً متماسكا. كما يحلم أبناء العربية بإعلام راق، هادف، منصف، غير مداهن في كشف الحقيقة وفضح المفسدين، ويرنو لليوم الذي تكون فيه كلمة الإعلام في جميع القضايا الدَّاخلية والخارجية هي ذاتها رأي أكثر الشَّعب، فالإعلام لسان المجتمع، وما ابتلي أحد بمثل لسان يفري بباطل، ويهذي بزور. وتكتمل سعادتنا بمؤسسات رقابية صارمة فاعلة، تمنع الشَّر قبل وقوعه، فإن وقع أخذت على يد الجاني حتى تشرِّد به مَنْ خلفه، وسعت في إصلاح أدواتها وإحكام قبضتها لصالح المجموع، كما يأمل أبناء الأمَّة العربية بنظام واحد واضح لا قانون طوارئ يخلط بين الخير والشر.
وكم يتمنّى بنو العرب أنْ يأتي اليوم الذي تذاع فيه موازنات بلدانهم كاملة، واضحة، حتى لا يتسلل الشَّك إلى نفس أحد منهم بإخفاء الحقيقة، أو وجود موازنات خاصَّة، لتصُّب الموارد بلا استثناء في المصارف مباشرةً دون أنْ تمرَّ على الجباة الذي يقطعون ويقتطعون ولا يبقون إلاَّ الفتات وغباره ليسُّدوا به ذريعة الفضيحة المجلجلة. ويتنازل البعض فيقول لو اقتصر الجباة على الفتات وأبقوا الأصل، وعند الله تلتقي الخصوم، وياله من حساب يختصم فيه الملايين من النَّاس مع واحد.
وينشد المواطنون الإطمئنان إلى توافر الأمانة، والقوة، والحكمة، والعلم، في مَنْ يُسَّمَّى للمناصب العليا، حتى لا يستيقظ النَّاس على مأسأة هنا، ومصيبة هناك، من جرَّاء فساد المسؤول، أو خور الرَّقيب. ومن الطُّمأنينة المبتغاة استقلال الأوقاف عن الحكومات، واختيار شاغلي المناصب الشَّرعية بناءً على أهليتهم دون النَّظر إلى ولاء حزبي أو نسب أو انتماء قبلي. ويأنف العربي من تداخل السُّلطة مع الثَّروة؛ وتزاوج المنصب مع المال، وتغلي مراجله حينذاك وإن بدا أنَّه ساكن لا يثور.
ولأنَّ صاحب الحاجة لحوح، والحقُّ لا يضيع ووراءه مطالب به، فإنَّ العربي والأعرابي يتطلَّعان إلى حفظ حقوقهما كاملة، وأنْ يكون الأصل حصول المواطن على حقِّه من التَّعليم والصِّحة والعمل والمال والمناصب والفرص التِّجارية بلا ذلَّة، ولا شفاعات، أو إتاوات، أو مشاركات وهمية؛ أو حقيقية. ولا يخفي المواطن دهشته من تباطؤ الدَّولة في تنفيذ بعض الخدمات أو المنَّة ببعض المكتسبات، ويتساءل: إنْ لم تفعل الدَّولة ذلك فما قيمة الانصياع للنِّظام واتِّباع الأوامر والزواجر؟
وسيشعر العربي الجسور بالفخر حين تمتلك بلاده جيشاً كبيراً مؤهلا، وترسانة من الأسلحة المختلفة لتدافع عن نفسها ضدَّ محاولات حرمانها من الماء، أو نشر الفوضى فيها، أو تقسيمها، أو تسلُّط جيرانها، أو نهب ثرواتها، فتكون بلاده مستغنية عن التَّدَّخل السَّريع والقواعد الرَّابضة في أرض يعرب، وتستعيد هيبتها المفقودة، وتستقل في شؤونها السِّياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتطرد المحتل والغاصب.
ويشتاق العربي إلى سماع لغته في بلاده صحيحة فصيحة، ويرجو أنْ يعلو شأن ابنة عدنان في مرابعها ومنابتها قبل أن نطالب العالم باعتبارها لغة معتمدة كغيرها من اللغات، وينتظر أولاد العرب وبناتهم مناهج تعليمية تحافظ على ثقافتهم الأصيلة؛ وتزيدهم من العلوم الأخرى، وتدَّربُّهم على القراءة والكتابة والتَّفكير والحوار والتَّحليل، حتى يكونوا الجيل المنتظر للإحياء الديني والتَّجديد الشَّرعي والنَّهضة الحضارية الرُّوحية والمادية.
إنَّها أمنيات عذبة لدى الأمة العربية، بيد أنَّ الحديث عن بعضها بصراحة قد يكون مضرَّاً في بعض البلدان؛ بسبب الملاحقات الأمنية؛ وما يتبعها من سجن وحظر وتضييق، فهل يستطيع العربي الأشمُّ أنْ ينتزع حقَّه في القول الآن؛ ليأتي جيل راشد ينتزع كلَّ حقوقه، ولو بعد حين؟